الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
إذا عرف هذا فقد تبين أن لفظ [الوسيلة] و[التوسل] فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه، ويعطى كل ذى حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه. وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون فى هذا اللفظ ومعناه. فإن كثيراً من اضطراب الناس فى هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك فى الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا يعرف فى هذا الباب فصل الخطاب. فلفظ الوسيلة مذكور فى القرآن فى قوله تعالى: فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول. فجماع الوسيلة التى أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك. والثانى لفظ الوسيلة فى الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لى الوسيلة فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة)، وقوله: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذى وعدته، إنك لا تخلف الميعاد، حلت له الشفاعة). فهذه الوسيلة للنبى صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله، وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول، وأخبر أن من سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دعوا للنبى صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا. /وأما التوسل بالنبى صلى الله عليه وسلم والتوجه به فى كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به فى عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة. فأما المعنيان الأولان ـ الصحيحان باتفاق العلماء ـ : فأحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثانى: دعاؤه وشفاعته كما تقدم. فهذان جائزان بإجماع المسلمين، ومن هذا قول عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، أى: بدعائه وشفاعته، وقوله تعالى: فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان : أحدها: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. والثانى: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان فى حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته، والسؤال بذاته، فهذا هو الذى لم تكن الصحابة يفعلونه فى الاستسقاء ونحوه، لا فى حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا فى شىء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شىء من ذلك فى أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا هو الذى قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدورى، فى كتابه الكبير فى الفقه المسمى بشرح الكرخى فى باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبى حنيفة. قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال أبو حنيفة: لا ينبغى لأحد أن يدعو الله إلا به. وأكره أن يقول: (بمعاقد العز من عرشك) أو (بحق /خلقك). وهو قول أبى يوسف، قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام. قال القدورى: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقا. وهذا الذى قاله أبو حنيفة وأصحابه ـ من أن الله لا يسأل بمخلوق ـ له معنيان : أحدهما: هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى. وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته كـ والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور إحداهما: لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور: مالك وأبى حنيفة والشافعى. والثانية: ينعقد اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضى وأتباعه، وابن المنذر وافق هؤلاء. وقصر أكثر هؤلاء النزاع فى ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم خاصة، وعَدَّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء. وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق ـ وإن كان نبيا ـ قول ضعيف فى الغاية، مخالف للأصول والنصوص، / فالإقسام به على الله ـ والسؤال به بمعنى الإقسام ـ هو من هذا الجنس. وأما السؤال بالمخلوق إذا كانت فيه باء السبب ليست باء القسم ـ وبينهما فرق ـ فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار القسم، وثبت عنه فى الصحيحين أنه قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) قال ذلك لما قال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الرُّبيع ؟ قال: لا والذى بعثك بالحق لا تكسر سنها. فقال: (يا أنس، كتاب الله القصاص)، فرضى القوم وعفوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، وقال: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) رواه مسلم وغيره، وقال: (ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جواظ [العتل: الشديد الجافى والفظ الغليظ من الناس. والجواظ: الكثير اللحم المختال فى مشيته، انظر: النهاية فى غريب الحديث 3/180، 1/316]. مستكبر) وهذا فى الصحيحين. وكذلك حديث أنس بن النضر والآخر من أفراد مسلم. وقد روى فى قوله: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) أنه قال: (منهم البراء بن مالك) وكان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون: يا براء أقسم على ربك. فيقسم على الله فتنهزم الكفار. فلما كانوا على قنطرة بالسوس قالوا: يا براء، أقسم على ربك. قال: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم، وجعلتنى أول شهيد. فأبر الله قسمه فانهزم العدو واستشهد البراء بن مالك يومئذ. وهذا هو أخو أنس بن مالك، قتل مائة رجل مبارزة غير من شرك فى دمه، وحمل يوم مسيلمة على ترس ورمى به إلى الحديقة حتى فتح الباب. /والإقسام به على الغير أن يحلف المقسم على غيره ليفعلن كذا، فإن حنثه ولم يبر قسمه فالكفارة على الحالف لا على المحلوف عليه عند عامة الفقهاء، كما لو حلف على عبده أو ولده أو صديقه ليفعلن شيئاً ولم يفعله، فالكفارة على الحالف الحانث. وأما قوله: [سألتك بالله أن تفعل كذا] فهذا سؤال وليس بقسم، وفى الحديث: (من سألكم بالله فأعطوه) ولا كفارة على هذا إذا لم يجب سؤاله. والخلق كلهم يسألون الله، مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار، فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم، وإذا مسهم الضر فى البحر ضل من يدعون إلا إياه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفورا ، وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون. فالسؤال كقول السائل لله: أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام. وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وأسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك. فهذا سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته، وليس ذلك إقساماً عليه؛ فإن أفعاله هى مقتضى أسمائه وصفاته، فمغفرته ورحمته من مقتضى اسمه الغفور الرحيم، وعفوه من مقتضى اسمه العفو ؛ ولهذا لما قالت عائشة للنبى صلى الله عليه وسلم: /إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول ؟ قال: (قولى: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى). وهدايته ودلالته من مقتضى اسمه الهادى، وفى الأثر المنقول عن أحمد بن حنبل أنه أمر رجلاً أن يقول: يا دليل الحيارى، دلنى على طريق الصادقين، واجعلنى من عبادك الصالحين. وجميع ما يفعل الله بعبده من الخير من مقتضى اسمه الرب؛ ولهذا يقال فى الدعاء: يا رب، يا رب، كما قال آدم: فإذ سئل المسؤول بشىء ـ والباء للسبب ـ سئل بسبب يقتضى وجود المسؤول. فإذا قال: أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، كان كونه محموداً مناناً، بديع السموات والأرض يقتضى أن يمن على عبده السائل، / وكونه محموداً هو يوجب أن يفعل ما يحمد عليه، وحمد العبد له سبب إجابة دعائه؛ ولهذا أمر المصلى أن يقول: (سمع الله لمن حمده) أى استجاب الله دعاء من حمده، فالسماع هنا بمعنى الإجابة والقبول كقوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع) أى لا يستجاب. ومنه قول الخليل فى آخر دعائه: وقال النبى صلى الله عليه وسلم لمن رآه يصلى ويدعـو، ولـم يحمـد ربه ولـم يصـل على نبيه فقال: (عَجِل هذا)، ثم دعاه فقال: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه وليصل على النبى صلى الله عليه وسلم، وليدع بعد بما شاء)، أخرجه أبو داود والترمذى وصححه . وقال عبد الله بن مسعود: كنت أصلى والنبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم بالصلاة على نبيه، ثم دعوت لنفسى فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (سل تعطه). رواه الترمذى وحسنه. فلفظ السمع يراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى مع ذلك / ويراد به القبول والاستجابة مع الفهم. قال تعالى: وقد جاء فى حديث رواه أحمد فى مسنده وابن ماجه، عن عطية العوفى عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه عَلَّم الخارج إلى الصلاة أن يقول فى دعائه: (وأسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك). فإن كان هذا صحيحاً فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو حق أوجبه على نفسه لهم، كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذى جعله سبباً لإجابة الدعاء كما فى قوله تعالى: وكما يسأل بوعده؛ لأن وعده يقتضى إنجاز ما وعده، ومنه قول المؤمنين: / ويشبه هذا مناشدة النبى صلى الله عليه وسلم يوم بدر حيث يقول: (اللهم أنجز لى ما وعدتنى). وكذلك ما فى التوراة: أن الله تعالى غضب على بنى إسرائيل، فجعل موسى يسأل ربه ويذكر ما وعد به إبراهيم، فإنه سأله بسابق وعده لإبراهيم . ومن السؤال بالأعمال الصالحة وكذلك كان ابن مسعود يقول وقت السحر: اللهم أمرتنى فأطعتك، ودعوتنى فأجبتك، وهذا سحر فاغفر لى، ومنه حديث ابن عمر: أنه كان يقول على الصفا:(اللهم إنك قلت ـ وقولك الحق ـ:
|